سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{الذين} رفع بالابتداء وخبره {يعرفونه} و{الكتاب} معناه التوراة والإنجيل وهو لفظ مفرد يدل علىلجنس، والضمير في {يعرفونه} عائد في بعض الأقوال على التوحيد لقرب قوله: {قل إنما هو إله واحد} [الأنعام: 19] وهذا استشهاد في ذلك على كفرة قريش والعرب بأهل الكتاب، و{الذين خسروا} على هذا التأويل منقطع مرفوع بالابتداء وليس من صفة {الذين} الأولى، لأنه لا يصح أن يستشهد بأهل الكتاب ويذمون في آية واحدة.
قال القاضي أبو محمد: وقد يصح ذلك لاختلاف ما استشهد فيه بهم وما ذموا فيه، وأن الذم والاستشهاد ليس من جهة واحدة، وقال قتادة والسدي وابن جريج: الضمير عائد في {يعرفونه} على محمد عليه السلام ورسالته، وذلك على ما في قوله: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم} [الأنعام: 19] فكأنه قال وأهل الكتاب يعرفون ذلك من إنذاري والوحي إليَّ، وتأول هذا التأويل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يدل على ذلك قوله لعبد الله بن سلام إن الله أنزل على نبيه بمكة أنكم تعرفون أبناءكم فكيف هذه المعرفة فقال عبد الله بن سلام نعم أعرفه الصفة التي وصفه الله في التوراة فلا أشك فيه، وأما ابني فلا أدري ما أحدثت أمه.
قال القاضي أبو محمد: وتأول ابن سلام رضي الله عنه المعرفة بالابن تحقق صحة نسبه، وغرض الآية إنما هو الوقوف على صورته فلا يخطئ الأب فيها، وقالت فرقة: الضمير من {يعرفونه} عائد على القرآن المذكور قبل.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن تعيد الضمير على هذه كلها دون اختصاص، كأنه وصف أشياء كثيرة، ثم قال: أهل الكتاب {يعرفونه} أي ما قلنا وما قصصنا وقوله تعالى: {الذين خسروا} الآية، يصح أن يكون {الذين} نعتاً تابعاً ل {الذين قبله}، والفاء من قوله {فهم} عاطفة جملة على جملة، وهذا يحسن على تأويل من رأى في الآية قبلها أن أهل الكتاب متوعدون مذمومون لا مستشهد بهم، ويصح أن يكون {الذين} رفعاً بالابتداء على استئناف الكلام، وخبره {فهم لا يؤمنون} والفاء في هذا جواب، {وخسروا} معناه غبنوها، وقد تقدم، وروي أن كل عبد له منزل في الحاجة ومنزل في النار، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار فهاهنا هي الخسارة بينة والربح للآخرين، وقوله تعالى: {ومن أظلم} الآية {من} استفهام مضمنه التوقيف والتقرير، أي لا أحد أظلم ممن افترى، و{افترى} معناه اختلق، والمكذب بالآيات مفتري كذب، ولكنهما منحيان من الكفر، فلذلك نصا مفسرين، والآيات العلامات والمعجزات ونحو ذلك، ثم أوجب {إنه لا يفلح الظالمون} والفلاح بلوغ الأمل والإرادة والنجاح، ومنه قول عبيد: [الراجز]
أفْلِحْ بِمَا شِئْتَ فَقَدْ تَبْلُغُ بالضْ *** ضعْفِ وقد يُخْدَعُ الأرِيبُ


قالت فرقة: {لا يفلح الظالمون} [الأنعام: 21] كلام تام معناه لا يفلحون جملة، ثم استأنف فقال: واذكر يوم نحشرهم، وقال الطبري المعنى لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا {ويوم نحشرهم} عطفاً على الظرف المقدر والكلام متصل، وقرأت طائفة {نحشرهم} و{نقول} بالنون، وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء، وقرأ عاصم هنا وفي يونس قبل الثلاثين {نحشرهم ونقول} بالنون، وقرأ في باقي القرآن بالياء، وقرأ أبو هريرة {نحشِرهم} بكسر الشين فيجيء الفعل على هذا حشر يحشر ويحشر، واضاف الشركاء إليهم لأنه لا شركة لهم في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء وإنما وقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة فأضيفت إليهم لهذه النسبة و{تزعمون} معناه تدعون أنهم لله، والزعم القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر كلامهم، وقد يقال زعم بمعنى ذكر دون ميل إلى الكذب، وعلى هذا الحد يقول سيبويه زعم اخليل ولكن ذلك إنما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله، وقوله تعالى: {ثم لم تكن فتنتنهم إلا أن قالوا} الآية قرأ ابن كثير في رواية شبل عنه وعاصم في رواية حفص وابن عامر {تكن فتنتُهم} برفع الفتنة و{إلا أن قالوا} في موضع نصب على الخبر التقدير إلا قولهم، وهذا مستقيم لأنه أنث العلامة في الفعل حين أسنده إلى مؤنث وهي الفتنة، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن كثير أيضاً {تكن فتنتهم} بنصب الفتنة، واسم كان {أن قالوا}، وفي هذه القراءة تأنيث {أن قالوا}، وساغ ذلك من حيث كان الفتنة في المعنى، قال أبو علي وهذا كقوله تعالى: {فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] فأنث الأمثال لما كانت الحسنات بالمعنى وقرأ حمزة والكسائي {يكن} بالياء {فتنتَهم} بالنصب واسم كان {إلا أن قالوا} وهذا مستقيم لأنه ذكر علامة الفعل حين أسنده إلى مذكر، قال الزهراوي وقرأت فرقة {يكن فتنُهم} برفع الفتنة، وفي هذه القراءة إسناد فعل مذكرالعلامة إلى مؤنث، وجاء ذلك بالمعنى لأن الفتنة بمعنى الاختبار أو المودة في الشيء والإعجاب وقرأ أبي بن وكيع وابن مسعود والأعمش {وما كان فتنتهم}، وقرأ طلحة بن مصرف، {ثم كان فتنتهم} والفتنة في كلام العرب لفظة مشتركة تقال بمعنى حب الشيء والإعجاب به كما تقول فتنت بكذا، وتحتمل الآية هنا هذا المعنى أي لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها وإتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبري منها والإنكار لها، وهذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدعي مودة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن مودتك لفلان إلا أن شتمته وعاديته، ويقال الفتنة في كلام العرب بمعنى الاختبار، كما قال عز وجل لموسى عليه السلام:
{وفتناك فتوناً} [طه: 40]، وكقوله تعالى: {ولقد فتنا سليمان وألقينا} [ص: 34] وتحتمل الآية هاهنا هذا المعنى لأن سؤالهم عن الشركاء وتوقيفهم اختبار، فالمعنى ثم لم يكن اختبارنا لهم إذ لم يفد ولا أثمر، إلا إنكارهم الإشراك، وتجيء الفتنة في اللغة على معان غير هذين لا مدخل لها في الآية ومن قال إن أصل الفتنة الاختبار من فتنت الذهب في النار ثم يستعار بعد ذلك في غيره فقد أخطأ لأن الاسم لا يحكم عليه بمعنى الاستعارة حتى يقطع باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له كقول ذي الرمة: [الطويل]
ولَفَّ الُّثرَيَّا في مُلاءتِهِ الفَجْرُ ***
ونحوه، والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر والله {ربِّنا} خفض على النعت لاسم الله، وقرأ حمزة والكسائي {ربَّنا} نصب على النداء، ويجوز فيه تقدير المدح، وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين {واللهُ ربُّنا} برفع الاسمين وهذا على تقدير تقديم وتأخير كأنهم قالوا ما كنا مشركين والله ربنا، و{ما كنا مشركين} معناه جحود إشراكهم في الدنيا، فروي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ويقال لهم أين شركاؤكم فينكرون طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان. وأتى رجل ابن عباس فقال: سمعت الله يقول: {والله ربنا ما كنا مشركين} وفي أخرى {ولا يكتمون الله حديثاً} [النساء: 42] فقال ابن عباس لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا تعالوا فلنجحد، وقالوا ما كنا مشركين فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثاً.
قال القاضي أبو محمد: وعبد بعض المفسرين عن الفتنة هنا بأن قالوا معذرتهم، قاله قتادة، وقال آخرون كلامهم قاله الضحاك، وقيل غير هذا مما هو كله في ضمن ما ذكرناه، وقوله تعالى {انظر كيف كذبوا} الآية، الخطاب لمحمد عليه السلام والنظر نظر القلب، وقال كذبوا في أمر لم يقع إذ هي حكاية يوم القيامة فلا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل ويفيدنا استعمال الماضي تحقيقاً ما في الفعل وإثباتاً له، وهذا مهيع في اللغة، ومنه قول الربيع بن ضبع الفزاري: [المنسرح]
أَصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاَحَ ولا *** أمْلِكُ رَأْسَ البَعيِرِ إن نَفَرَا
يريد أن ينفر {وضل عنهم} معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكذبهم بادعائهم لله تبارك وتعالى الشركاء.


الضمير في قوله {ومنهم} عائد على الكفار الذين تضمنهم قبل قوله {يوم نحشرهم جميعاً} [الأنعام: 22] وأفرد {يستمع} وهو فعل جماعة حملاً على لفظ {من} و{أكنة} جمع كنان وهو الغطاء الجامع، ومنه كنانة السهام والكنّ، ومنه قوله تعالى: {بيض مكنون} [الصافات: 49] ومنه قول الشاعر: [الطويل]
إذا ما انتَضَوْها في الوغى مِنْ أَكِنَّةً *** حَسِبْتَ بُروقَ الغَيْثِ هَاجَتْ غُيُومُها
وفعال وأفعله مهيع في كلامهم و{أن يفقهوه} نصب على المفعول من أجله أي كراهية أن يفهموه، وقيل المعنى أن لا يفقهوه، ويلزم هذا القول إضمار حرف النفي، و{يفقهوه} معناه يفقهوه، ويقال فقِه الرجل بكسر القاف إذا فهم الشيء وفقُه بضمها: إذا صار فقيهاً له ملكة، وفقه إذا غلب في الفقه غيره، والوقر: الثقل في السمع، يقال وقرت أذنه ووقِرت بكسر القاف وفتحها، ومنه قول الشاعر: [الرمل]
وكلام سيّء وَقَرَتْ *** أُذُنِي وما بي مِنْ صَمَمْ
وقد سمع أذن موقورة فالفعل على هذا وقرت، وقرأ طلحة بن مصرف: {وِقراً} بكسر الواو كأنه ذهب إلى أن آذانهم وقرت بالصمم كما توقر الدابة من الحمل وهي قراءة شاذة، وهذا عبارة عما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلط والبعد عن قبول الخير لا أنهم لم يكونوا سامعين لأقواله، وقوله تعالى: {وإن يروا كل آية} الآية، الرؤية هنا الرؤية العين يريد كانشقاق القمر وشبهه.
قال القاضي أبو محمد: ومقصد هذه الآية أنهم في أعجز درجة وحاولوا رد الحق بالدعوى المجردة والواو في قوله {وجعلنا} واو الحال والباب أن يصرح معها بقد، وقد تجيء أحياناً مقدرة، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال ومن هؤلاء الكفرة من يستمعك وهو من الغباوة في حد قلبه في كنان وأذنه صماء وهو يرى الآيات فلا يؤمن بها لكنه مع بلوغه الغاية من هذه القصور إذا جاء للمجادلة قابل بدعوى مجردة، والمجادلة المقابلة في الاحتجاج مأخوذ من الجدل، و{هذا} في قولهم إشارة إلى القرآن، والأساطير جمع أسطار كأقوال وأقاويل ونحوه، وأسطار جمع سطر وسطر، وقيل الأساطير جمع أسطارة وهي النزهات، وقيل جمع أسطورة كأعجوبة وأضحوكة، وقيل هم اسم جمع لا واحد من لفظه كعبابيد وشماميط والمعنى أخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تسطر وتحكى ولا تحقق كالتواريخ وإنما شبهها الكفار بأحاديث النضر بن الحارث وأبي عبد الله بن أبي أمية عن رستم والسندباد، ومجادلة الكفار كانت مرادّتهم نور الله بأفواههم المبطلة، وقد ذكر الطبري عن ابن عباس أنه مثل من ذلك قولهم: إنكم أيها المتبعون محمداً تأكلون ما قتلتم بذبحكم ولا تأكلون ما قتل الله، ونحو هذا من التخليط الذي لا تتركب منه حجة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا جدال في حكم، والذي في الآية إنما هو جدال في مدافعة القرآن، فلا تتفسر الآية عندي بأمر الذبح.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8